فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله عز وجل: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله للعباد هذا بنوء كذا وكذا وهذا بـ: (عثانين) الأسد، وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك. والمعنى: وتجعلون شكر رزقكم، كما تقول لرجل: جعلت يا فلان إحساني إليك أن تشتمني المعنى: جعلت شكر إحساني. وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان؟ بمعنى ما شكره. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرؤها: {وتجعلون شكركم إنكم تكذبون}، وكذلك قرأ ابن عباس، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ابن عباس ضم التاء وفتح الكاف، وعلي رضي الله عنه: فتح التاء وسكن الكاف وخفف الذال، ومن هذا المعنى قول الشاعر: السريع:
وكان شكر القوم عند المنى ** كي الصحيحات وفقء الأعين

وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل من السماء ماء مباركًا فأنبت به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقًا للعباد فهذا معنى قوله: {إنكم تكذبون}، أي بهذا الخبر.
وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: {تَكْذبون} بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف الدال كقراءة علي بن أبي طالب. وكذبهم في مقالتهم بين، لأنهم يقولون هذا بنوء كذا وذلك كذب منهم وتخرص، وذكر الطبري أن النبي عليه السلام سمع رجلًا يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال له: «كذبت، بل هو رزق الله».
قال القاضي أبو محمد: والنهي عنه المكروه هو أن يعتقد أن للطالع من النجوم تأثيرًا في المطر، وأما مراعاة بعض الطوالع على مقتضى العادة، فقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء: يا عباس، يا عم النبي عليه السلام كم بقي من نوء الثريا، فقال العباس: العلماء يقولون إنها تتعرض في الأفق بعد سقوطها سبعًا. قال ابن المسيب: فما مضت سبع حتى مطروا.
وقوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله تعالى ملك كل شيء، والضمير في: {بلغت} لنفس الإنسان والمعنى يقتضيها وإن لم يتقدم لها ذكر.
و: {الحلقوم} مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزاع المرء للموت.
وقوله: {وأنتم} إشارة إلى جميع البشر، وهذا من الاقتضاب كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29].
وقرأ عيسى بن عمر: {حينئِذ} بكسر النون. و: {تنظرون} معناه إلى المنازع في الموت.
وقوله تعالى: {ونحن أقرب إليه منكم} يحتمل أن يريد ملائكته ورسله، ويحتمل أن يريد بقدرتنا وغلبتنا، فعلى الاحتمال الأول يجيء قوله: {ولكن لا تبصرون} من البصر بالعين، وعلى التأويل الثاني يجيء من البصر بالقلب. وقال عامر بن عبد قيس: ما نظلت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليه مني، ثم عاد التوقيف والتقرير ثانية بلفظ التحضيض، والمدين: المملوك هذا أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا، ومن عبر عنها بمجازي أو بمحاسب فذلك هنا قلق والمملوك يقلب كيف يشاء المالك، ومن هذا الملك قول الأخطل: الطويل:
ربت وربا في حجرها ابن مدينة ** تراه على مسحاته يتركّلُ

أراد ابن أمة مملوكة وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى هذا البيت: أراد أكارًا حضريًا لأن الأعراب في البادية لا يعرفون الفلاحة وعمل الكرم، فنسبه إلى المدينة لما كان من أهلها، فبمعنى الآية فلولا ترجعون النفس البالغة الحلقوم إن كنتم غير مملوكين مقهورين ودين الملك حكمه وسلطانه، وقد نحا إلى هذا المعنى الفراء، وذكره مستوعبًا النقاش.
وقوله: {ترجعونها} سدت مسد الأجوبة والبيانات التي يقتضيها التحضيضات، و{إذا} من قوله: {فلولا إذا} و{إن} المتكررة وحمل بعض القول بعضًا إيجازًا واقتضابًا.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88).
ذكر الله تعالى في هذه الآية حال الأزواج الثلاثة المذكورين في أول السورة وحال كل امرئ منهم، فأما المرء من السابقين المقربين فيلقى عند موته روحًا وريحانًا، والروح: الرحمة والسعة والفرح، ومنه {روح الله} [يوسف: 87] والريحان وهو دليل النعيم، وقال مجاهد، الريحان: الرزق. وقال أبو العالية وقتادة والحسن، الريحان: هذا الشجر المعروف في الدنيا يلقى المقربين ريحانًا من الجنة.
وقرأ الحسن وابن عباس وجماعة كثيرة {فرُوح} بضم الراء. وقال الحسن ومعناه: روحه يخرج في ريحانه وقال الضحاك، الريحان: الاستراحة.
قال القاضي أبو محمد: الريحان، ما تنبسط إليه النفوس. وقال الخليل: هو طرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور، وقد قال عليه السلام في الحسن والحسين: «هما ريحانتاي من الدنيا»، وقال النمر بن تولب: المتقارب:
سلام الإله وريحانه ** ورحمته وسماء درر

وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {فرُوح} بضم الراء.
وقوله تعالى: {فسلام لك من أصحاب اليمين} عبارة تقتضي جملة مدح وصفة تخلص وحصول في عال من المراتب ليس في أمرهم إلا السلام والنجاة من العذاب، وهذا كما تقول في مدح رجل: أما فلانة فناهيك به، أو فحسبك أمره، فهذا يقتضي جملة غير مفصلة من مدحه، وقد اضطربت عبارات المتأولين في قوله تعالى: {فسلام لك} فقال قوم: المعنى: فيقال له مسلم لك إنك من أصحاب اليمين، وقال الطبري المعنى: {فسلام لك} أنت {من أصحاب اليمين}، وقيل المعنى {فسلام لك} يا محمد، أي لا ترى فيهم إلا المسالمة من العذاب، فهذه الكاف في ذلك إما أن تكون للنبي عليه السلام وهو الأظهر، ثم لكل معشر فيها من أمته وإما أن تكون لمن يخاطب من أصحاب اليمين، وغير هذا مما قيل تكلف.
و {المكذبون الضالون}: هم الكفار أصحاب الشمال والمشأمة، و(النزل): أول شيء يقدم للضيف، والتصلية: أن يباشر بهم النار وحيث تراكمها، ولما كمل تقسيم أحوالهم وانقضى الخبر بذلك، أكد تعالى الاخبار بأن قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبة تدخل معه أمته فيها، إن هذا الذي أخبرنا به {لهو حق اليقين}. وإضافة الحق إلى {اليقين} عبارة فيها مبالغة، لأنهما بمعنى واحد، فذهب بعض الناس إلى أنه من باب دار الآخرة ومسجد الجامع، وذهبت فرقة من الحذاق إلى أنه كما تقول في أمر تؤكده: هذا يقين اليقين أو صواب الصواب، بمعنى أنه نهاية الصواب، وهذا أحسن ما قيل فيه، وذلك لأن دار الآخرة وما أشبهها يحتمل أن تقدر شيئًا أضفت الدار إليه وصفته بالآخرة ثم حذفت واقمت الصفة مقامه، كأنك قلت: دار الرجعة أو النشأة أو الخلقة، وهنا لا يتجه هذا، وإنما هي عبارة مبالغة وتأكيد معناه أن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته.
وقوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} عبارة تقتضي الأمر بالإعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة الله تعالى والدعاء إليه. وروى عقبة بن عامر أنه لما نزل {فسبح باسم ربك العظيم} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم،» فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم. ويحتمل أن يكون المعنى: سبح لله بذكر أسمائه العلى، والاسم هنا بمعنى الجنس، أي بأسماء ربك. و: {العظيم} صفة للرب وقد يحتمل أن يكون الاسم هنا واحدًا مقصودًا، ويكون {العظيم} صفة له، فكأنه أمره أن يسبحه باسمه الأعظم وإن كان لم ينص عليه، ويؤيد هذا ويشير إليه أيصال سورة الحديد أولها ففيه التسبيح وجملة من أسماء الله تعالى، وقد قال ابن عباس: اسم الله الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد، فتأمل هذا فإنه من دقيق النظر، ولله تعالى في كتابه العزيز غوامض لا تكاد الأذهان تدركها.
كمل تفسير سورة الواقعة والحمد لله رب العالمين. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)}.
قرأ الجمهور: {فلا أقسم}، فقيل: لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} والمعنى: فاقسم.
وقيل: المنفي المحذوف، أي فلا صحة لما يقول الكفار.
ثم ابتدأ أقسم، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة؛ ولا يجوز، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها، وليس جوابًا لسائل سأل، فيحتمل ذلك، نحو قوله: {لا} لمن قال: هل من رجل في الدار؟ وقيل: توكيد مبالغة ما، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم، إلا في شائع الكلام القسم وغيره، ومنه.
فلا وأبي أعدائها لا أخونها

والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها، فتولدت منها ألف، كقوله:
أعوذ بالله من العقارب

وهذا وإن كان قليلًا، فقد جاء نظيره في قوله: {فاجعل أفئيدة من الناس} بياء بعد الهمزة، وذلك في قراءة هشام، فالمعنى: فلأقسم، كقراءة الحسن وعيسى، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف، أي فلأنا أقسم، وتبعه على ذلك الزمخشري.
وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال، وفي القسم عليه خلاف.
فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبرًا لمبتدأ محذوف، فتصير الجملة اسمية، فيقسم عليها.
وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال، وهذا الذي اختاره فتقول: والله ليخرج زيد، وعليه قول الشاعر:
ليعلم ربي أن بيتي واسع

وقال الزمخشري: في قراءة الحسن، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين، أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح؛ والثاني: أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. انتهى.
أما الأمر الأول ففيه خلاف، فالذي قاله قول البصريين، وأما الكوفيون فيختارون ذلك، ولكن يجيزون تعاقبهما، فيجيزون لأضربن زيدًا، واضربن عمرًا.
وأما الثاني فصحيح، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم، وأقسم فعل حال، والقسم قد يكون جوابًا للقسم؛ كما قال تعالى: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} فاللام في {وليحلفن} جواب قسم، وهو قسم، لكنه لما لم يكن حلفهم حالًا، بل مستقبلًا، لزمت النون، وهي مخلصة المضارع للاستقبال.
وقرأ الجمهور: {بمواقع} جمعًا؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي: {بموقع} مفردًا، مرادًا به الجمع.
قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم: هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا القول قوله: {إنه لقرآن}، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله: {بمواقع النجوم}، أي نجوم القرآن.
وقيل: النجوم: الكواكب ومواقعها.
قال مجاهد وأبو عبيدة: عند طلوعها وغروبها.
وقال قتادة: مواقعها: مواضعها من السماء.
وقال الحسن: مواقعها عند الانكدار يوم القيامة.
وقيل: عند الانفضاض أثر العفاري، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام، كقوله: {حتى توارت بالحجاب} وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن، وقد أعظم ذلك تعالى فقال: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}.
والجملة المقسم عليها قوله: {إنه لقرآن كريم}، وفصل بين القسم وجوابه؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله: {لو تعلمون}.
وقال ابن عطية: {وإنه لقسم} تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله: {لو تعلمون}. انتهى.